الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
وقال بعض الناس في هذه الآية التي نحن فيها البروج القصور في الجنة، وقال الأعمش: كان أصحاب عبد الله يقرؤونها {في السماء قصوراً}، وقيل البروج الكواكب العظام حكاه الثعلبي عن أبي صالح، وهذا نحو ما بيناه إلا أنه غير ملخص، وأما القول بأنها قصور في الجنة فقول يحط غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل به. وقرأ الجمهور {سراجاً} وهي الشمس، وقرأ حمزة الكسائي وعبد الله بن مسعود وعلقمة والأعمش {سرجاً} وهو اسم جميع الأنوار، ثم خص القمر بالذكر تشريفاً، وقرأ النخعي وابن وثاب والأعمش أيضاً {سرْجاً} بسكون الراء، قال أبو حاتم روى عصمة عن الحسن {وقُمُراً} بضم القاف ساكنة الميم ولا أدري ما أراد أن يكون عنى جمعاً كثمر وثمر وقال أبو عمرو وهي قراءة الأعمش والنخعي، وقوله: {خلفة} أي هذا يخلف هذا، وهذا يخلف هذا، ومن هذا المعنى قول زهير: [الطويل] ومن هذا قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأباً [يزيد بن معاوية]: [المديد] وقال مجاهد {خلفة} من الخلاف، هذا أبيض وهذا أسود، وما قدمناه أقوى، وقال مجاهد وغيره من النظار {لمن أراد أن يذكر} أي يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله على نعمه عليه في العقل والفهم والفكر، وقال عمرو بن الخطاب والحسن وابن عباس معناه {لمن أراد أن يذكر} ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه، وقرأ حمزة وحده {يذْكُر} بسكون الذال وضم الكاف، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والنخعي، وقرأ الباقون {يذّكر} بشد الذال، وفي مصحف أبي بن كعب {يتذكر} بزيادة تاء، ثم قال تعالى: {لمن أرد أن يذكر أو أراد شكوراً} جاء بصفة عباده الذين هم أهل التذكر والشكور، والعباد والعبيد بمعنى إلا أن العباد يستعمل في مواضع التنويه، وسمي قوم من عبد القيس العباد لأن كسرى ملكهم دون العرب، وقيل لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عبد الله وإليهم ينسب عدي بن زيد العبادي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {وعبد الرحمن}، ذكره الثعلبي، وقوله: {الذين يمشون على الأرض} عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم نذكر من ذلك العظم لاسيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ثم قال، {هوناً}، بمعنى أمره كله هون أي لين، قال مجاهد، بالحلم والوقار، وقال ابن عباس بالطاعة والعفاف والتواضع، وقال الحسن حلماً إن جهل عليهم لم يجهلوا، وذهبت فرقة إلى أن {هوناً} مرتبط بقوله: {يمشون على الأرض} أي المشي هو هون، ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي {هوناً} مناسبة لمشيه فيرجع القول إلى نحو ما بيّناه وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل لأنه رب ماش {هوناً} رويداً وهو ذئيب أطلس.وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفا في مشيه كأنما يمشي في صبب وهو عليه السلام الصدر في هذه الآية. وقوله صلى الله عليه وسلم «من مشى منكم في طمع فليمش رويداً» إنما أراد في عقد نفسه ولم يرد المشي وحده، ألا ترى أن المبطلين المتحيلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر ذماً لهم [أبي جعفر المنصور]: [مجزوء الرمل] وقال الزهري سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه.قال القاضي أبو محمد: يريد الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط وقال زيد بن أسلم كنت أسأل عن تفسير قوله: {الذين يمشون على الأرض هوناً} فما وجدت في ذلك شفاء، فرأيت في النوم من جاءني فقال هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض.قال الفقيه الإمام القاضي: فهذا تفسير في الخلق، و{هوناً} معناه رفقاً وقصداً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «أجب حبيبك هوناً ما» الحديث وقوله: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}. اختلف في تأويل ذلك، فقالت فرقة ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلاماً بهذا اللفظ أي سلمنا سلاماً وتسليماً ونحو هذا، فيكون العامل فيه فعلاً من لفظه على طريقة النحويين، والذي أقول إن {قالوا} هو العامل في {سلاماً} لأن المعنى {قالوا} هذا اللفظ، وقال مجاهد معنى {سلاماً} قولاً سديداً، أي يقول للجاهل كلاماً يدفعه به برفق ولين ف {قالوا} على هذا التأويل عامل في قوله: {سلاماً} على طريقة النحويين وذلك أنه بمعنى قولاً، وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يختص الكفرة وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة، وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه وما تكلم على نسخ سواه، ورجح به أن المراد السلامة لا التسليم لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالتسليم على الكفار والآية مكية فنسختها آية السيف.قال الفقيه الإمام القاضي: ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي كان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال يوماً بمحضر المأمون وعنده جماعة: كنت أرى علياً في النوم فكنت أقول له من أنت؟ فكان يقول علي بن أبي طالب، فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها، فكنت أقول له إنما تدّعي هذا الأمر بإمرة ونحن أحق به منك، فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه، فقال المأمون وبماذا جاوبك قال: فكان يقول لي سلاماً سلاماً، قال الراوي وكان إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت فنبه المأمون على الآية من حضره وقال هو والله يا عمي علي بن أبي طالب وقد جاوبك بأبلغ جواب فحزن إبراهيم واستحيا وكانت رؤياه لا محالة صحيحة.
وقول بشر أبي حازم: [المتقارب] وقرأ جمهور الناس {مُقاماً} بضم الميم من الإقامة، ومنه قول الشاعر: وقرأ فرقة {مَقاماً} بفتح الميم من قام يقوم فجنهم ضد مقام كريم والأول أفصح وأشهر.
أي جزاء وعقوبة، وقال عكرمة وعبد الله بن عمرو ومجاهد إن {أثاماً} واد في جهنم هذا اسمه وقد جعله الله عقاباً للكفرة، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي {يضاعفْ ويخلدْ} جزماً، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر والحسن {يضعّفْ} بشد العين وطرح الألف وبالجزم في {يضعَفْ ويخلدْ}، وقرأ طلحة بن سليمان {نضعِّف} بضم النون وكسر العين المشددة {العذابَ} نصب {ويخلد} جزم وهي قراءة أبي جعفر وشيبة، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {يضاعفُ ويخلدُ} بالرفع فيهما، وقرأ طلحة بن سلمان {وتخلد} بالتاء على معنى مخاطبة الكافر بذلك، وروي عن أبي عمرو {ويُخلَّد} بضم الياء من تحت وفتح اللام قال أبو علي وهي غلط من جهة الرواية {ويضاعفْ} بالجزم بدل من {يلق} قال سيبويه مضاعفة العذاب هي الأثام قال الشاعر: البيت وقوله: {إلا من تاب} الآية لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني واختلفوا في القاتل من المسلمين، فقال جمهور العلماء له التوبة وجعلت هذه الفرقة قاعدتها قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك} [النساء: 48] فجعل القاتل في المشيئة كسائر التائبين من الذنوب، ويتأولون الخلود الذي في آية القتل في سورة النساء بمعنى الدوام إلى مدة كخلد الدول ونحوه، وروى أبو هريرة في أن التوبة لمن قتل حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل إن هذه الآية نزلت في وحشي قاتل حمزة، وقاله سعيد بن جبير، وقال ابن عباس وغيره لا توبة للقاتل، قال ابن عباس وهذه الآية إنما أريد بالتوبة فيها المشركون وذلك أنها لما نزلت {إلا من تاب} الآية، ونزلت {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53]، فما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح فرحه بها وبسورة الفتح، وقال غير ابن عباس ممن قال بأن لا توبة للقاتل إن هذه الآية منسوخة بآية سورة النساء قاله زيد بن ثابت، ورواه أيضاً سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال أبو الجوزاء صحبت ابن عباس ثلاث عشرة سنة فما شيء من القرآن إلا سألته عنه فما سمعته يقول إن الله تعالى يقول لذنب لا أغفره وقوله تعالى: {يبدل الله سيئاتهم حسنات}.معناه يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة فيكون ذلك سبباً لرحمة الله إياهم قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن، ورد على من قال هو في يوم القيامة، وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي يقتضي أن الله تعالى يبدل يوم القيامة لمن يريد المغفرة من الموحدين بدل سيئات حسنات، وذكره الترمذي والطبري وهذا تأويل ابن المسيب في هذه الآية.قال القاضي أبو محمد: وهو معنى كرم العفو، وقرأ ابن أبي عبلة {يبْدِل} بسكون الباء وتخفيف الدال.
|